عبء العقول
بقلم: أ.د. يونس مقدادي
الحمدالله على نعمة العقل، ولولا هذه النعمة لما أستطاع أحد منا التمكن من العيش والتكيف مع الحياة وضغوطاتها وعلى مختلف الصعد الحياتية، والتي يراها العديد بإنها كانت سبباً في تخمة عقولُنا، وحملت الإنسان أعباء فكرية كبيرة تفوق طاقة العقل البشري، مما شكلت تحولاً في طرق تفكيرنا، ونتيجة لذلك، أصبحنا عاجزين على أن نجد لأنفسنا فسحة من الراحة أو الهدوء النفسي، لا بل أصبحت الانفعالات والعصبية الزائدة جزءاً من سلوكنا اليومي، وبنهاية المطاف نكتشف بأننا محملين بعبء يفوق بكثير من طاقتنا كبشر.
وعلى سبيل المثال لا للحصر لهذه الظاهرة أننا نجد أنفسنا – صغيرنا وكبيرنا نتكلم بكل شئ وبإسهاب وبأدق التفاصيل، وعلى سبيل المثال لا للحصر، نجد الجميع يتكلم عن الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحلولها، وكأننا محاضرين في أرقى الجامعات، وهذا المشهد لا يدلل على نسب التعلم وكثرة الشهادات، لا بل على الكمّ الكبير من الضغوطات الحياتية والمعيشية التي أتخمت عقولنا، مما دفعت الغالبية منا بالحديث والتعبير عن الرأي عن هكذا تفاصيل وبغض النظر عن صواب الحديث أو عدمه، مع تجاوزنا الصريح لأصحاب الاختصاص ولو بحسن النوايا، وهذه الحالة قد لا نشهد هذا السلوك الفكري في مجتمعات أخرى بهذا المقدار أو الطريقة، بإعتبار كل ما يحدث من حولهم هو شأن عام والمعني به ذوي الإختصاص، مما نجدهم في الغالب على درجة كبيرة من الهدوء النفسي والشخصي والاجتماعي.
ومن باب المداعبة، وهذا ما هو شائع، أن نجد أنفسنا في مسرح حديث مجالسنا وعلاقاتنا الاجتماعية نخوض بكثير من ضغوطات الحياة، ونبدأ بسرد الحلول وبثقةٍ عاليةٍ إنطلاقاً من معطيات الظروف التي تحكم موضوع الحديث، والغريب نجد أنفسنا نتحدث بتزمت وبمشهد يسوده الانفعال والعصبية ولغة الاسقاط وبغض النظر عن سن وأهلية المتحدث.
وهذا يقودنا إلى نتيجة مفادها: وجود عبء كبير قد يُتعب عقولنا مما يدفعنا إلى دمارها، مع جزمنا بعدم وجود أنسان أو مجتمع يخلو من ضغوطات الحياة، ولكن من المؤسف وفي حالات كثيرة نجد تبعاتها أصبحت تحملنا عبئاً ذهنياً وتشغلُ عقولنا بأدق التفاصيل، والدليل ما نشهده من أمراض نفسية وعضوية ومشاكل مجتمعية وغيرها كنتيجة لإشغال واستهلاك عقولنا بطرق عكسية قد تلحق الضرر بصحتنا والأدلة والشواهد كثيرة. نتفق إلى حد كبير بأن ضغوطات الحياة قد تُعكر حالتنا النفسية والشخصية والاجتماعية، ولكن لا ننسى المثل الشعبي السائد "العقل زينة" والحكمة بهكذا ظروف العمل وبحرص على ضبط الخريطة الذهنية، ومحاولة استرخاء منبهات العقل واللسان، وألّا نجعل عقولنا مستودعاً لأزمات الحياة، والتي أصبحت تسيطر على عقولنا وسلوكياتنا وهي أصبحت ظاهرة للعيان ضمن ملامح يشوبها الاضطراب والانفعالات والنكد وغيرها.
نتطلع بعين ثاقبة لهذه الحالة لأهميتها ومساسها المباشر بحياتنا اليومية وصحة عقولنا، مما يتطلب الأمر منا جميعاً إعادة النظر في سلم الأولويات وطرق التفكير، وكيفية التعاطي مع ضغوطات الحياة تفادياً لأعباءها حرصاً على عقولنا وسعت الخريطة الذهنية والتي أصبحت لا تتسع لكل ما يحيط بحياتنا من منغصات، وكذلك عدم إقحام أنفسنا فيما يعكر هدوءنا وراحتنا، وألّا نتطفل بمعرفة كل شيء والخوض بالحديث في كل شيء حفاظاً على أنفسنا من مستنقع الشقاء في ظل ارتفاع سقف الطموح الزائد عن حده، مما يدفعنا للتأكيد وبحرص على التفكير وبجدية في صناعة ثقافة فكرية ومجتمعية يسودها منطق العقل البشري، والشعور بالهدوء والايجابية والسكينة النفسية والمجتمعية، وترسيخ ثقافة الرقي والمستمدة من رصانة وإتزان العقول كرصيد فعلي نابض بالفكر البناء كنواة في بناء الحضارة والتحضر الفكري نحو تحقيق طموحاتنا وتطلعاتنا عبر الأجيال.