خارج الصندوق: ثقافة تفكير
بقلم: أ.د.يونس مقدادي
ما زال مصطلح خارج الصندوق يتردد على ألسن أصحاب الفكر والرأي وكذلك أصحاب القرار في المؤسسات ومن مختلف القطاعات والذي تبين بإن هذا المصطلح مرتبط بنمط التفكير الرامي إلى التفكير بطرق غير تقليدية كما وصفه البعض، والبعض وصفه أيضاً بإنه منهج لتفكير الكبار نحو ترشيد وبناء الرأي أو القرار بطريقة تفكير تتسم بالخروج عن المألوف من حيث طرح المعطيات والتحليل والربط بين الأبعاد والاستنتاج وترتيب الخيارات ثم الوصول للقرار.
ومن هنا نجد هذا المصطلح قد أصبح من المصطلحات الأكثر شيوعاً لدى من هم في موقع المسؤولية وصنع القرار بالدرجة الأولى إعتقاداً منهم بإن عملية إتخاذ القرارات هي نتيجة تفكير معمق تهتم بأدق التفاصيل والموضوعية لتمكينهم من ترجمة أفكارهم وتوجهاتهم بأفضل الطرق وبأفضل النتائج سعياً منهم لتحقيق بما يسمى بالقرارات النوعية بهدف التخلص من نتائج أنماط التفكير السطحي والتي أثبتت للجميع بإنها أنماط عفى عليها الزمان وولى والتي لا تعبر عن مهنية وفكر العمل المؤسسي. والمتمعن في مضمون هذا المصطلح سيجد بإن له إرتباط وثيق بعلم الإدارة ونظرياته المختلفة وبشكلٍ خاص النظريات المتخصصة بالقيادة والتخطيط الاستراتيجي والتي أكدت بإن ثقافة التفكير خارج الصندوق من أهم مقومات القيادة الناجحة والمتمثلة في إدارة شؤون عملها ومسؤولياتها وقرارتها المختلفة إنطلاقاً بما تتمتع به هذه القيادات من بُعد النظر وحكمة وقدرة على التحليل والتشخيص والتي بمجملها تكون الأساس الرئيس في عملية التفكير خارج الصندوق لبلورة أفكار أكثر جاذبية بإبعادها وأغراضها، وبنفس الوقت تكون منسجمة مع متطلبات وتوجهات الحاكمية، وتحديات الواقع المؤسسي وأهدافه للخروج بالتالي من مأزق العديد من المخاطر، والتوجه نحو النجاح والتميز المؤسسي بنهاية المطاف.
ويرى الكثير من ذوي الاختصاص في مجال القيادة الإدارية وبشكلٍ خاص في صناعة القرار بإن تفعيل ثقافة التفكير خارج الصندوق وبشكلٍ مؤسسي في عمق الحياة الوظيفية وعلى مختلف المستويات إذ يتطلب من حاكمية المؤسسات الحرص الأكيد في تفعيل أسس الاختيار للمواقع القيادية بإعتبارها المفتاح الحقيقي لإنقاذ أو إنعاش الوضع العام للمؤسسات بفكرها الواسع والرامي إلى تحقيق نقلة نوعية فيها طابع التميز والتنافسية بمجمل مدخلاتها ومخرجاتها، مع الحرص بالابتعاد عن القيادات الإدارية ذات الأفكار العقيمة، والمنغمسة بفسافس الحياة الوظيفية والتي بالتالي ستشكل نمطاً قيادي تقليدي لا يرقى لمستوى الطموح المؤسسي المنشود، لا بل سيساهم هذا في تكريس التخلف الفكري غير المرغوب فيه والنتائج ستكون حتمية بعيدة كل البُعد عن أسباب النجاح والتطلع نحو التميز المؤسسي بسبب غياب ثقافة التفكير خارج الصندوق والذي في الغالب قد أصبح عملة نادرة في ظل العمى الفكري والسائد في كثير من المؤسسات التقليدية. ولو دققنا النظر بأسباب النجاح والتميز للمؤسسات محلياً وعالمياً سنجد بإن ثقافة التفكير خارج الصندوق لقيادات تلك المؤسسات كانت السبب الرئيس في إبراز هويتها وسمعتها والتي أصبحت على لسان القاصي والداني، ناهيك على ما توصلت اليه هذه العبقرية المؤسسية في التربع على مفاصل التنافسية المحلية والعالمية.
إن تغيير ثقافة التفكير المؤسسي للقيادات الإدارية قد أصبح مطلباً أساسياً لمن يرغب للخروج من مستنقع التفكير السطحي بإفرازاته الرجعية والتوجه نحو التفكير خارج الصندوق ليلامس التوجهات النوعية والمصيرية في ظل التحولات والتحديات المحيطة بالمؤسسات وفي مختلف القطاعات والتي فرضت نفسها على طريقة التفكير للقيادات الإدارية وعلى مختلف المستويات بإعتبارهم المفاتيح الحقيقية في تصحيح جميع المسارات إنطلاقاً من طرق تفكيرهم وأفكارهم لترجمتها عملياً وإسقاطها على كافة مناحي الحياة المؤسسية لقيادة دفة البناء الاستراتيجي المتميز والمتطلع نحو مستقبلٍ أفضل يسوده العطاء والإنجازات النوعية كخيار إستراتيجي ولا بديل عنه.
إن عالمنا اليوم ومنذ عقود من الزمن يشهد جملة من التحديات والتي يراها العديد منا بإنها قد أصبحت تشكل صدمات مصيرية يصعب على أصحاب القرار وثقافتهم الفكرية في التعامل مع نتائج هذه التحديات ضمن وصفات علاجية مناسبة. ومن هنا نرى بإن المعالجات المناسبة لهذه المعضلة الهامة تكمن في مراجعة شاملة لثقافة المؤسسات السائدة، وترسيخ ثقافة التفكير خارج الصندوق للقيادات الإدارية وعلى مختلف المستويات والتي تُعد مفتاح التغيير من خلال طرق التفكير وطرح الأفكار والخيارات والحلول لمعالجة ما هو ممكن من تحديات ومشاكل تعيق عملها، والابتعاد عن الأفكار السطحية والتي تنم عن قصر النظر والإجتهادات والتجاذبات الشخصية العقيمة، وتقييم أداء وفكر وإنجازات القيادات الإدارية وفقاً لمعايير نوعية وليس على ما هو شائع أو متداول، وقياس مستويات أو معدلات التغيير والتحسين في الأدوات والنتائج، وقياس مستوى وفاعلية القيم المضافة من حيث المضمون النوعي وإنعكاساتها على الأداء، وترسيخ ثقافة الإبداع الإداري القائمة على التشاركية بالرأي والطرح للأفكار الإبداعية.
وعليه بإعتقادنا سنجد بإن هناك فرصة كبيرة لترسيخ ثقافة التفكير خارج الصندوق للخروج من عنق الزجاجة نحو التغيير الايجابي الممزوج بالتطلع نحو مستقبلٍ أفضل.